ماذا فعل النبي محمد - صلى الله علية وسلم-حتى أصبح عظيماً بهذه الدرجة..
ماذا صنع محمد - صلى الله علية وسلم-للانسان في تلك الفترة من حياته.. حتى نجد أن البشرية كلما يبرز فيها عظماء عباقرة ومفكرون شخصيات تحولوا إلى أقزام بين يدي ذلك العملاق.
حتى يقول فيه البروفسور (ستوبارت):
(إنه لا يوجد مثال واحد في التاريخ الإنساني بأكمله يقارب شخصية محمد!)
(إلا.. ما أقل ما امتلكه من الوسائل المادية وما أعظم ما جاء به من البطولات النادرة، ولو إننا درسنا التاريخ من هذه الناحية، فلن نجد فيه اسماً منيراً كاسم النبي العربي، الذي قدمه للبشرية سابقاً..؟).
وهل لا زالت أمتنا تتمكن أن تستفيد من هذا الذي صنعه الرسول في حياته إذا عرفنا إن الشيء الذي قدمه الرسول للانسانية هو إتيانه بدين جديد شأنه شأن سائر الأديان التي جاء بها الأنبياء قبله، مثل موسى وعيسى..؟
فأنه في هذه الحالة يبقى سؤال انه لماذا أصبح إذن محمد - صلى الله علية وسلم-سيد المرسلين وخاتم الأنبياء..؟
ما هي هذه الميزة الموجودة في خاتم الأنبياء التي لا توجد في غيره ممن سبقه..؟
وإذا اعتبرنا محمداً - صلى الله علية وسلم-كأي مصلح آخر جاء إلى شعبه وأنقذهم من التخلف والانحطاط والحرمان، وأوجد لهم حياة حرة ينعم فيها الناس بالرضاء والمحبة والوئام.
فإذن يجب أن يكون شأنه ـ في هذه الحالة ـ شأن سائر المصلحين الاجتماعيين وهو أن يأتي فترة ويحكم ويحتل صفحات معينة من التأريخ ثم يمر عليه زمن وتطوي تلك الصفحات، وينسى ذلك المصلح، ويخرج من ذاكرة الزمن والأجيال الجديدة إلا أللهم مَن كان همهم هم دراسة التأريخ ورجاله ومَن أراد أن يراجع أوراق التاريخ الصفراء ويقرأ سطورها المنسية فيعثر على اسم رجل كان في فترة كذا وعمل كذا..
إذن ما الداعي إلى أن يعيش محمد - صلى الله علية وسلم-في حياة الناس اليومية.. ويعاصر الزمن ويبقى الناس يرددون اسمه كل يوم؟؟
وهل يحتاج محمد - صلى الله علية وسلم-أن يدخل في حياة الانسان اليومية إلى هذه الدرجة حيث يصاح باسمه كل يوم عشرات المرات.. ويذكر ويصلى عليه؟ وماذا فعله محمد - صلى الله علية وسلم-حتى يظل إلى هذه الفترة يعيش مع الأجيال المتجددة ويحتفلون كل سنة بمولوده ومعراجه وهجرته.. وحروبه وغزواته؟؟
واليوم حيث يطل القرن الخامس عشر على هجرته فتتحول الدنيا إلى مهرجان احتفالاً بهذه المناسبة، نحن نعرف بأن أشخاصاً عظماء زاروا الحياة فترة وعملوا ما عملوا وأنجزوا أعمالاً ضخمة، لكنهم نتيجة قدم الزمن ومرور الأيام والعصور تحولوا إلى فسيفساء جميلة تزين جدار التأريخ وتحولوا إلى مواد أثرية.. أو أساطير مدونة في الكتب التاريخية!
مثل الإسكندر المقدوني المعروف بذي القرنين.. أو سقراط وأفلاطون ونابليون وغاليلو وكوبرينك ونيوتن وأديسون وانشتاين وغيرهم من العلماء والمخترعين والملوك والفاتحين.
إلا أن محمداً - صلى الله علية وسلم-الوحيد الذي يشارك الناس في حياتهم اليومية، ويجوز هذا الذكر الخالد والمعاصرة اليومية لحياة المجتمعات الحديثة.
إنه جزء محسوس من حياة المسلم العادية.. فتراه يصبح على ذكر محمد - صلى الله علية وسلم-ويمسي على ذكر محمد - صلى الله علية وسلم-ويلهج على ذكر محمد - صلى الله علية وسلم-.
إنه الانسان الوحيد الذي يعيش في كل زمان وفي كل مكان، لا تخلو أرض من ذكره ولا تخلو لحظة واحدة عمن تلهج شفتاه باسمه المبارك، هل هناك سر..؟
وهل أن محمداً - صلى الله علية وسلم-لا زال حياً بفعل الأمر الذي صنعه للحياة وبفضل الشيء الذي قدّمه للانسان.؟
ويا ترى ما هو؟ وماذا عمل النبي محمد - صلى الله علية وسلم-حتى يستحق كل هذا المجد والخلود؟ وماذا قدم ولا زال لأفراد البشرية.. حتى يتطلب من الانسان أن يذكره كل يوم ويستحضر شخصيته في عبادته وتوجهه لاستقبال كل يوم جديد؟
الجواب:
نحن الآن في عصر الصاروخ والكهرباء..
وفي عصر العقول الإلكترونية والنظريات العلمية الحديثة.
أي أن الانسان سد حاجاته المادية تقريباً، واكتفى من الناحية التكنولوجية والآليات المكانيكية. ويعيش من ناحية الوسائل وطرق الرفاه والمواصلات الحديثة في أرقى المستويات.
ولكن هذه الوسائل والتقنية لبت حاجات الانسان الجسدية فقط أما الحاجات النفسية والروحية فلا زالت بحاجة إلى إشباع ولم تتمكن الحضارة الحديثة بما أوتيت من وسائل وقوة أن تسد هذه الحاجات.
فالحضارة المادية المعاصرة أوصلت الانسان إلى حافة الدمار.. لأنها لا تحمل في طياتها المضمون الانساني.. والهدف الحقيقي.. للكائن الحي.
(ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).
إن أعظم مهمة في رسالة النبي هي: تحرير الانسان..
تحرير الانسان من القيود التي تبعده عن الحق، تحرير الانسان من الأغلال النفسية (الجبت) والأغلال الاجتماعية والسياسية (الطاغوت).
فشرط الإيمان في رسالة النبي محمد - صلى الله علية وسلم-: أولاً الكفر بالجبت والطاغوت..
أي رفض القيود والأغلال، وإزالة الأنظمة الجائرة، ومكافحة الطغاة من الخارج بعد تحرير النفس من أغلال الخوف والجبن والكبر والشهوات في داخل النفس.
إن أعظم ما قام به النبي محمد - صلى الله علية وسلم-وصنعه وقدمه للحياة والانسانية: هو إنه كسر عن الانسان تلك القيود التي كانت تكبل عقله ونفسه، يديه ورجليه، وتمنعه من الانطلاق بحرية في الحياة من أجل تأمين سعادته واستقلاله وكرامته، لقد كانت القيود والأغلال النفسية والخارجية تكبل حياة الانسان كثيرة.. ورهيبة..
وجاء محمد - صلى الله علية وسلم-، برسالة الحرية، وكسر تلك القيود الواحد بعد الآخر.
أول قيد وأعظم غل كان يطوق رقبة الانسان في ذلك العصر:
الجهل والتقليد الأعمى.
أغلال الخرافة والتقاليد الجاهلية..
لقد كان الجهل سائداً في ذلك المجتمع الجاهلي.. وكان ظلاماً مسيطراً على تفكير الناس..
وكان هذا الجهل سبباً لكل الآلام والمشاكل والجرائم التي يعاني منها الانسان في ذلك العصر.
وكان الانسان يرضى بذلك الواقع الفساد والوضع المتردي لأنه كان يجهل طريق السعادة والصلاح في الحياة.
وكان الانسان يرضى بأن يسيطر عليه حفنة من المرابين والتجار.. تحت غطاء الأصنام والأوثان المقدسة.. فكان هؤلاء المظلومون والدجالون يلعبون بعقله ويستنزفون جهوده ويسترقونه ويبقونه عبداً خاضعاً لهم..
لقد كان أغلب الناس في مكة يعيشون عبيداً تحت سيطرة مجموعة من السادة والأغنياء المستكبرين.. وهؤلاء يلهبون ظهور أولئك العبيد بالسياط ويحملون على ظهورهم الأثقال. وهم يئنون تحتها ولا يستطيعون أن يتنفسوا في الهواء الطلق أو يستنشقوا نسمة الحرية.
لقد جاء النبي محمد - صلى الله علية وسلم-إلى مجتمع نصفه عبيد ونصفه سادة مترفون ومستكبرون.. يستعبدون الناس الضعفاء بالقوة ويسرقون جهود ونتاج عملهم ويستنزفون أقصى طاقاتهم ويلقون لهم بفتات موائدهم التي يأكلوها ممزوجة بالذل والهوان.
وبعدما جاء النبي ودعاهم إلى دين التوحيد ورسالة الحرية كانت أول كلمة في رسالة النبي هي كلمة:
(اقرأ).
وهي كلمة العلم..
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الانسان ما لم يعلم).
كلمات تتحدث عن العلم والقراءة والقلم وتشرح معلومات عن طريقة خلقة الانسان (علم التشريح والفسلجة)..
إنها رسالة العلم ضد الجهل والخرافة..
في هذا المجتمع الأمي ـ الجاهلي ـ حيث كان الأشخاص الذين يعرفون فيه القراءة والكتابة لا يتجاوزون عدد الأصابع.
وإذا بالرسالة التي تقرع سمعهم تتحدث عن القراءة والكتابة، وعن القلم أداة التثقيف والتعليم.
(ن، والقلم وما يسطرون).
القلم والفكر.
وفي ذلك المجتمع يأتي النبي بحقائق علمية ويصدمهم بها.. حينما كانوا لا يفقهون شيئاً عنها.. تلك الحقائق العلمية التي ذكرها النبي والقرآن، جاء العلم الحديث ليتوصل إلى بعضها اليوم ويكتف بعض أسرارها.
حتى لكأن وعد القرآن بذلك منذ أول يوم حين قال:
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يعلموا إنه الحق).
إن رسالة تتحدث عن العلم والثقافة جاءت لتكسر قيود الجهل والخرافة والتقليد عن عقل الانسان وتفكيره، ألم يعترف أولئك الذين رفضوا قبول دعوة النبي وأتباع رسالته بهذه القيود التي تمنعهم من الإيمان برسالته والقبول بدعوته.
اعترفوا بأن الذي يمنعهم عن قبولهم هو جهلهم بما يقول:
(وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون).
فعقولهم الغارقة في الجهل والظلام لا تفقه قوله، وآذانهم المثقلة بأحاديث الخرافة والأفكار الجاهلية.. تجعل بينهم وبين فهم دعوة النبي وفهم أهدافها هذا الحجاب السميك.
كما إنهم كانوا يبرروا بالتقليد الأعمى للآباء والتعصب لدينهم:
(إنا وجدنا آباءنا على ملة، وإنا على آثارهم مهتدون).
(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألقينا عليه آباءنا أو لو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون).
وحقاً كانت رسالة النبي رسالة العلم والنور.
فإن أولئك الذين اتبعوا تلك الرسالة، والتفوا حول دعوة النبي، وهم الفقراء العبيد والمستضعفون الذين وجدوا في دعوته الخلاص والمفتاح لباب الحرية والكرامة والهدى.
حرر النبي الانسان من قيود الجهل والظلم والظلام وحطم مقاييس التفرقة العنصرية والتمييز الطبقي بين أبناء المجتمع، وأعطى الانسان شعوراً بالكرامة والسيادة والثقة بنفسه، والمساواة مع أبناء جنسه..
(لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى).
وأصبح المسلمون ـ حملة رسالة العدل والأخوة والمساواة إلى الشعوب الرازحة تحت نير الطغاة والمستعبدين والواقعة تحت وطأة الظلم والتمييز الطبقي..
وهكذا حرر الاسلام شعوب العالم.. عندما حرر الفرد وأشعره بقيمته الانسانية.. وحرره من سيطرة الأسياد والمستكبرين.. والمتحكمين في مصيره..
الاسلام جعل الانسان حراً في اختياره وتقرير مصيره بنفسه فقد وضع الاسلام مقياساً واحداً للحكم والرجوع عليه.. وهو العقل والمنطق..
فالعقل وحدة مقياس للحق والعقيدة.
وإذا تحرر العقل من سيطرة الجهل والشهوات والتظليل والإراء.. فإنه يبصر النور ويهدي الانسان إلى السعادة.
إن القيود المفروضة على عقل الانسان والتي تمنعه من التفكير الحر والصائب هي:
1 ـ قيد الجهل والشهوات والأهواء النفسية.
2 ـ قيد التقليد الأعمى واتباع الآباء.
3 ـ قيد المضللين وأصحاب الأغراض والمصالح المتحكمين في المجتمع.
وهؤلاء يشكلون الطاغوت في اصطلاح القرآن.
والطاغوت الذي أمرنا القرآن بالكفر به وعدم الخضوع له يظهر في ثلاثة وجوه أو يعتمد على ثلاثة أركان هي:
1 ـ القوة.
2 ـ المال.
3 ـ الإعلام.
ويمثلهم في التاريخ فرعون رمز التسلط والطغيان السياسي، وقارون رمز الاستثمار والطغيان الاقتصادي، وبلعم بن باعورا رمز التضليل الإعلامي واستغلال ستار الدين من قبل الرجعية.
فهؤلاء كلهم وقفوا في صف واحد ضد النبي موسى ورسالته التحررية.
وحينما جاء النبي ووجد هذه الفئات المتحكمة في المجتمع ثار في وجه هذه الفئات.. وكسر قيودها المسيطرة على الناس حينئذ.
فثار ضدّ الأصنام وسدنتها الذين كانوا يسيطرون على عقل الانسان وشعوره، ويبتزون طاقاته عن طريق تقديس الأصنام وعبادتها في الكعبة.
لقد كان تجار قريش يستغلون الدين والعبادة المقدسة عند الكعبة للتجارة والمصالح، فكانوا يستغلون السذج والبسطاء، ويظللونهم ويملأون عقولهم بالخرافات والجهل.
وكانت سدانة البيت بيد تجار مكة وأثرياءها.
وكانت المصالح تتركز في يد طبقة من البرجوازيين والأثرياء أمثال أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف ورؤساء القبائل.. وهم يسيطرون على كل شيء، ويتحكمون في كل شيء، ويستغلون كل شيء من أجل مصالحهم المادية.
فكان الانسان يعيش تحت سيطرة هذه الطبقة الأرستقراطية، ولا يملك حرية التفكير والتعرف والخروج على هذه المعتقدات والأفكار التي ينشرونها.. وهي: عبادة الأصنام والأوثان وتقديم القرابين والنذور لها، فكانت واردات هذه الأصنام تصب في جيوب أولئك الأغنياء والمستغلين.
بالإضافة إلى مظاهر الميوعة والتحلل والفساد الخلقي التي كانت منتشرة في ذلك الجو الموبوء.. وهي التي كانت تستهوي شباب مكة والعرب فكانت تجلبهم إلى سقو عكاظ.. لاقتراف المجون والتحلل، في سائر المراكز والمحلات..
فكان ينظر النبي إلى هذه المظاهر بعين الاشمئزاز والتقزز، وكان يدعوه هذا المحيط الموبوء والبيئة الفاسدة بل وتلجئه إلى الهروب من مكة واللجوء إلى جبالها وشعابها المقفرة، والاختلاء بنفسه، والتفكير، والانقطاع، والتبتل في غار حراء على بعد ثمانية أميال من مكة في وسط جبل خشن سمي فيما بعد بجبل النور.
ماذا صنع محمد - صلى الله علية وسلم-للانسان في تلك الفترة من حياته.. حتى نجد أن البشرية كلما يبرز فيها عظماء عباقرة ومفكرون شخصيات تحولوا إلى أقزام بين يدي ذلك العملاق.
حتى يقول فيه البروفسور (ستوبارت):
(إنه لا يوجد مثال واحد في التاريخ الإنساني بأكمله يقارب شخصية محمد!)
(إلا.. ما أقل ما امتلكه من الوسائل المادية وما أعظم ما جاء به من البطولات النادرة، ولو إننا درسنا التاريخ من هذه الناحية، فلن نجد فيه اسماً منيراً كاسم النبي العربي، الذي قدمه للبشرية سابقاً..؟).
وهل لا زالت أمتنا تتمكن أن تستفيد من هذا الذي صنعه الرسول في حياته إذا عرفنا إن الشيء الذي قدمه الرسول للانسانية هو إتيانه بدين جديد شأنه شأن سائر الأديان التي جاء بها الأنبياء قبله، مثل موسى وعيسى..؟
فأنه في هذه الحالة يبقى سؤال انه لماذا أصبح إذن محمد - صلى الله علية وسلم-سيد المرسلين وخاتم الأنبياء..؟
ما هي هذه الميزة الموجودة في خاتم الأنبياء التي لا توجد في غيره ممن سبقه..؟
وإذا اعتبرنا محمداً - صلى الله علية وسلم-كأي مصلح آخر جاء إلى شعبه وأنقذهم من التخلف والانحطاط والحرمان، وأوجد لهم حياة حرة ينعم فيها الناس بالرضاء والمحبة والوئام.
فإذن يجب أن يكون شأنه ـ في هذه الحالة ـ شأن سائر المصلحين الاجتماعيين وهو أن يأتي فترة ويحكم ويحتل صفحات معينة من التأريخ ثم يمر عليه زمن وتطوي تلك الصفحات، وينسى ذلك المصلح، ويخرج من ذاكرة الزمن والأجيال الجديدة إلا أللهم مَن كان همهم هم دراسة التأريخ ورجاله ومَن أراد أن يراجع أوراق التاريخ الصفراء ويقرأ سطورها المنسية فيعثر على اسم رجل كان في فترة كذا وعمل كذا..
إذن ما الداعي إلى أن يعيش محمد - صلى الله علية وسلم-في حياة الناس اليومية.. ويعاصر الزمن ويبقى الناس يرددون اسمه كل يوم؟؟
وهل يحتاج محمد - صلى الله علية وسلم-أن يدخل في حياة الانسان اليومية إلى هذه الدرجة حيث يصاح باسمه كل يوم عشرات المرات.. ويذكر ويصلى عليه؟ وماذا فعله محمد - صلى الله علية وسلم-حتى يظل إلى هذه الفترة يعيش مع الأجيال المتجددة ويحتفلون كل سنة بمولوده ومعراجه وهجرته.. وحروبه وغزواته؟؟
واليوم حيث يطل القرن الخامس عشر على هجرته فتتحول الدنيا إلى مهرجان احتفالاً بهذه المناسبة، نحن نعرف بأن أشخاصاً عظماء زاروا الحياة فترة وعملوا ما عملوا وأنجزوا أعمالاً ضخمة، لكنهم نتيجة قدم الزمن ومرور الأيام والعصور تحولوا إلى فسيفساء جميلة تزين جدار التأريخ وتحولوا إلى مواد أثرية.. أو أساطير مدونة في الكتب التاريخية!
مثل الإسكندر المقدوني المعروف بذي القرنين.. أو سقراط وأفلاطون ونابليون وغاليلو وكوبرينك ونيوتن وأديسون وانشتاين وغيرهم من العلماء والمخترعين والملوك والفاتحين.
إلا أن محمداً - صلى الله علية وسلم-الوحيد الذي يشارك الناس في حياتهم اليومية، ويجوز هذا الذكر الخالد والمعاصرة اليومية لحياة المجتمعات الحديثة.
إنه جزء محسوس من حياة المسلم العادية.. فتراه يصبح على ذكر محمد - صلى الله علية وسلم-ويمسي على ذكر محمد - صلى الله علية وسلم-ويلهج على ذكر محمد - صلى الله علية وسلم-.
إنه الانسان الوحيد الذي يعيش في كل زمان وفي كل مكان، لا تخلو أرض من ذكره ولا تخلو لحظة واحدة عمن تلهج شفتاه باسمه المبارك، هل هناك سر..؟
وهل أن محمداً - صلى الله علية وسلم-لا زال حياً بفعل الأمر الذي صنعه للحياة وبفضل الشيء الذي قدّمه للانسان.؟
ويا ترى ما هو؟ وماذا عمل النبي محمد - صلى الله علية وسلم-حتى يستحق كل هذا المجد والخلود؟ وماذا قدم ولا زال لأفراد البشرية.. حتى يتطلب من الانسان أن يذكره كل يوم ويستحضر شخصيته في عبادته وتوجهه لاستقبال كل يوم جديد؟
الجواب:
نحن الآن في عصر الصاروخ والكهرباء..
وفي عصر العقول الإلكترونية والنظريات العلمية الحديثة.
أي أن الانسان سد حاجاته المادية تقريباً، واكتفى من الناحية التكنولوجية والآليات المكانيكية. ويعيش من ناحية الوسائل وطرق الرفاه والمواصلات الحديثة في أرقى المستويات.
ولكن هذه الوسائل والتقنية لبت حاجات الانسان الجسدية فقط أما الحاجات النفسية والروحية فلا زالت بحاجة إلى إشباع ولم تتمكن الحضارة الحديثة بما أوتيت من وسائل وقوة أن تسد هذه الحاجات.
فالحضارة المادية المعاصرة أوصلت الانسان إلى حافة الدمار.. لأنها لا تحمل في طياتها المضمون الانساني.. والهدف الحقيقي.. للكائن الحي.
(ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).
إن أعظم مهمة في رسالة النبي هي: تحرير الانسان..
تحرير الانسان من القيود التي تبعده عن الحق، تحرير الانسان من الأغلال النفسية (الجبت) والأغلال الاجتماعية والسياسية (الطاغوت).
فشرط الإيمان في رسالة النبي محمد - صلى الله علية وسلم-: أولاً الكفر بالجبت والطاغوت..
أي رفض القيود والأغلال، وإزالة الأنظمة الجائرة، ومكافحة الطغاة من الخارج بعد تحرير النفس من أغلال الخوف والجبن والكبر والشهوات في داخل النفس.
إن أعظم ما قام به النبي محمد - صلى الله علية وسلم-وصنعه وقدمه للحياة والانسانية: هو إنه كسر عن الانسان تلك القيود التي كانت تكبل عقله ونفسه، يديه ورجليه، وتمنعه من الانطلاق بحرية في الحياة من أجل تأمين سعادته واستقلاله وكرامته، لقد كانت القيود والأغلال النفسية والخارجية تكبل حياة الانسان كثيرة.. ورهيبة..
وجاء محمد - صلى الله علية وسلم-، برسالة الحرية، وكسر تلك القيود الواحد بعد الآخر.
أول قيد وأعظم غل كان يطوق رقبة الانسان في ذلك العصر:
الجهل والتقليد الأعمى.
أغلال الخرافة والتقاليد الجاهلية..
لقد كان الجهل سائداً في ذلك المجتمع الجاهلي.. وكان ظلاماً مسيطراً على تفكير الناس..
وكان هذا الجهل سبباً لكل الآلام والمشاكل والجرائم التي يعاني منها الانسان في ذلك العصر.
وكان الانسان يرضى بذلك الواقع الفساد والوضع المتردي لأنه كان يجهل طريق السعادة والصلاح في الحياة.
وكان الانسان يرضى بأن يسيطر عليه حفنة من المرابين والتجار.. تحت غطاء الأصنام والأوثان المقدسة.. فكان هؤلاء المظلومون والدجالون يلعبون بعقله ويستنزفون جهوده ويسترقونه ويبقونه عبداً خاضعاً لهم..
لقد كان أغلب الناس في مكة يعيشون عبيداً تحت سيطرة مجموعة من السادة والأغنياء المستكبرين.. وهؤلاء يلهبون ظهور أولئك العبيد بالسياط ويحملون على ظهورهم الأثقال. وهم يئنون تحتها ولا يستطيعون أن يتنفسوا في الهواء الطلق أو يستنشقوا نسمة الحرية.
لقد جاء النبي محمد - صلى الله علية وسلم-إلى مجتمع نصفه عبيد ونصفه سادة مترفون ومستكبرون.. يستعبدون الناس الضعفاء بالقوة ويسرقون جهود ونتاج عملهم ويستنزفون أقصى طاقاتهم ويلقون لهم بفتات موائدهم التي يأكلوها ممزوجة بالذل والهوان.
وبعدما جاء النبي ودعاهم إلى دين التوحيد ورسالة الحرية كانت أول كلمة في رسالة النبي هي كلمة:
(اقرأ).
وهي كلمة العلم..
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الانسان ما لم يعلم).
كلمات تتحدث عن العلم والقراءة والقلم وتشرح معلومات عن طريقة خلقة الانسان (علم التشريح والفسلجة)..
إنها رسالة العلم ضد الجهل والخرافة..
في هذا المجتمع الأمي ـ الجاهلي ـ حيث كان الأشخاص الذين يعرفون فيه القراءة والكتابة لا يتجاوزون عدد الأصابع.
وإذا بالرسالة التي تقرع سمعهم تتحدث عن القراءة والكتابة، وعن القلم أداة التثقيف والتعليم.
(ن، والقلم وما يسطرون).
القلم والفكر.
وفي ذلك المجتمع يأتي النبي بحقائق علمية ويصدمهم بها.. حينما كانوا لا يفقهون شيئاً عنها.. تلك الحقائق العلمية التي ذكرها النبي والقرآن، جاء العلم الحديث ليتوصل إلى بعضها اليوم ويكتف بعض أسرارها.
حتى لكأن وعد القرآن بذلك منذ أول يوم حين قال:
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يعلموا إنه الحق).
إن رسالة تتحدث عن العلم والثقافة جاءت لتكسر قيود الجهل والخرافة والتقليد عن عقل الانسان وتفكيره، ألم يعترف أولئك الذين رفضوا قبول دعوة النبي وأتباع رسالته بهذه القيود التي تمنعهم من الإيمان برسالته والقبول بدعوته.
اعترفوا بأن الذي يمنعهم عن قبولهم هو جهلهم بما يقول:
(وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون).
فعقولهم الغارقة في الجهل والظلام لا تفقه قوله، وآذانهم المثقلة بأحاديث الخرافة والأفكار الجاهلية.. تجعل بينهم وبين فهم دعوة النبي وفهم أهدافها هذا الحجاب السميك.
كما إنهم كانوا يبرروا بالتقليد الأعمى للآباء والتعصب لدينهم:
(إنا وجدنا آباءنا على ملة، وإنا على آثارهم مهتدون).
(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألقينا عليه آباءنا أو لو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون).
وحقاً كانت رسالة النبي رسالة العلم والنور.
فإن أولئك الذين اتبعوا تلك الرسالة، والتفوا حول دعوة النبي، وهم الفقراء العبيد والمستضعفون الذين وجدوا في دعوته الخلاص والمفتاح لباب الحرية والكرامة والهدى.
حرر النبي الانسان من قيود الجهل والظلم والظلام وحطم مقاييس التفرقة العنصرية والتمييز الطبقي بين أبناء المجتمع، وأعطى الانسان شعوراً بالكرامة والسيادة والثقة بنفسه، والمساواة مع أبناء جنسه..
(لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى).
وأصبح المسلمون ـ حملة رسالة العدل والأخوة والمساواة إلى الشعوب الرازحة تحت نير الطغاة والمستعبدين والواقعة تحت وطأة الظلم والتمييز الطبقي..
وهكذا حرر الاسلام شعوب العالم.. عندما حرر الفرد وأشعره بقيمته الانسانية.. وحرره من سيطرة الأسياد والمستكبرين.. والمتحكمين في مصيره..
الاسلام جعل الانسان حراً في اختياره وتقرير مصيره بنفسه فقد وضع الاسلام مقياساً واحداً للحكم والرجوع عليه.. وهو العقل والمنطق..
فالعقل وحدة مقياس للحق والعقيدة.
وإذا تحرر العقل من سيطرة الجهل والشهوات والتظليل والإراء.. فإنه يبصر النور ويهدي الانسان إلى السعادة.
إن القيود المفروضة على عقل الانسان والتي تمنعه من التفكير الحر والصائب هي:
1 ـ قيد الجهل والشهوات والأهواء النفسية.
2 ـ قيد التقليد الأعمى واتباع الآباء.
3 ـ قيد المضللين وأصحاب الأغراض والمصالح المتحكمين في المجتمع.
وهؤلاء يشكلون الطاغوت في اصطلاح القرآن.
والطاغوت الذي أمرنا القرآن بالكفر به وعدم الخضوع له يظهر في ثلاثة وجوه أو يعتمد على ثلاثة أركان هي:
1 ـ القوة.
2 ـ المال.
3 ـ الإعلام.
ويمثلهم في التاريخ فرعون رمز التسلط والطغيان السياسي، وقارون رمز الاستثمار والطغيان الاقتصادي، وبلعم بن باعورا رمز التضليل الإعلامي واستغلال ستار الدين من قبل الرجعية.
فهؤلاء كلهم وقفوا في صف واحد ضد النبي موسى ورسالته التحررية.
وحينما جاء النبي ووجد هذه الفئات المتحكمة في المجتمع ثار في وجه هذه الفئات.. وكسر قيودها المسيطرة على الناس حينئذ.
فثار ضدّ الأصنام وسدنتها الذين كانوا يسيطرون على عقل الانسان وشعوره، ويبتزون طاقاته عن طريق تقديس الأصنام وعبادتها في الكعبة.
لقد كان تجار قريش يستغلون الدين والعبادة المقدسة عند الكعبة للتجارة والمصالح، فكانوا يستغلون السذج والبسطاء، ويظللونهم ويملأون عقولهم بالخرافات والجهل.
وكانت سدانة البيت بيد تجار مكة وأثرياءها.
وكانت المصالح تتركز في يد طبقة من البرجوازيين والأثرياء أمثال أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف ورؤساء القبائل.. وهم يسيطرون على كل شيء، ويتحكمون في كل شيء، ويستغلون كل شيء من أجل مصالحهم المادية.
فكان الانسان يعيش تحت سيطرة هذه الطبقة الأرستقراطية، ولا يملك حرية التفكير والتعرف والخروج على هذه المعتقدات والأفكار التي ينشرونها.. وهي: عبادة الأصنام والأوثان وتقديم القرابين والنذور لها، فكانت واردات هذه الأصنام تصب في جيوب أولئك الأغنياء والمستغلين.
بالإضافة إلى مظاهر الميوعة والتحلل والفساد الخلقي التي كانت منتشرة في ذلك الجو الموبوء.. وهي التي كانت تستهوي شباب مكة والعرب فكانت تجلبهم إلى سقو عكاظ.. لاقتراف المجون والتحلل، في سائر المراكز والمحلات..
فكان ينظر النبي إلى هذه المظاهر بعين الاشمئزاز والتقزز، وكان يدعوه هذا المحيط الموبوء والبيئة الفاسدة بل وتلجئه إلى الهروب من مكة واللجوء إلى جبالها وشعابها المقفرة، والاختلاء بنفسه، والتفكير، والانقطاع، والتبتل في غار حراء على بعد ثمانية أميال من مكة في وسط جبل خشن سمي فيما بعد بجبل النور.